الاستثمار الأجنبي المباشر من منظور إسلامي
د. عمر بن فيحان المرزوقي (*)
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن تبع هداه، وبعد:
تسعى غالبية الدول النامية – إن لم يكن كلها – لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، باعتباره وسيلة تمويل للتنمية الاقتصادية والاجتماعية التي قد أصبحت هدفاً رئيساً، تسعى إلى تحقيقه هذه الدول، ومنها الدول الإسلامية، من أجل زيادة دخلها القومي، ومن ثم زيادة متوسط دخل الفرد، والإرتقاء بمستواه المعيشي.
باعتبار أن تحقيق هذه الأهداف، والغايات النبيلة يتطلب توفير موارد مالية، تفوق في الغالب ما يمكن تعبئته من مدخراتها المحلية، التي تتسم أصلاً بالضعف، بسبب ضعف متوسط دخل الفرد حيناً، وتسرب بعضها في أغراض غير اقتصادية حينا آخر, وهروبها إلى الخارج تارة، لتحرم بلدانها من الموارد المالية المتاحة، التي يمكن الاستفادة منها في تمويل الاستثمار المحلي. الأمر الذي يجعل العديد من الدول الإسلامية مضطرة لا محالة إلى الاستعانة بمصادر التمويل الدولي، ومنه الاستثمارات الأجنبية المباشرة، كي تشارك هي الأخرى في تمويل التنمية الاقتصادية التي تعتبر التحدي الكبير الذي يواجه جميع الدول الإسلامية.
ويهدف هذا البحث إلى بيان موقف الشريعة الإسلامية من الاستثمار الأجنبي المباشر، على أن يسبق ذلك استعراض لمفهوم ذلك الاستثمار، والآثار المحتملة له في الاقتصاد المضيف.
ولتحقيق هذا الهدف فقد تم تقسيم البحث إلى قسمين، كل قسم يضم المواضيع التالية:
- القسم الأول: الاستثمار الأجنبي المباشر.
• أولاً : تعريف الاستثمار الأجنبي المباشر.
• ثانياً: أهم أشكال الاستثمار الأجنبي المباشر.
• ثالثاً: الآثار المحتملة للاستثمار الأجنبي المباشر على اقتصاد الدولة المضيف.
- القسم الثاني: موقف الشريعة الإسلامية من الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
• أولاً: موقف الشريعة الإسلامية من إقامة الكافر في الحجاز وسائر البلاد الإسلامية الأخرى.
• ثانياً: موقف الشريعة الإسلامية من مشاركة الكافر للمسلم في المشروعات الاستثمارية.
• ثالثاً: الضوابط الشرعية للاستثمارات الأجنبية المباشرة في الدول الإسلامية.
وأخيراً نسأل الله العلي القدير أن يبارك في هذا الجهد المتواضع, ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
القسم الأول
الاستثمار الأجنبي المباشر
أولاً: تعريف الاستثمار:
أ- الاستثمار في اللغة: مشتق من الثمر، أي حمل الشجر وأنواع المال، ويقال: ثمر الرجل ماله: نماه, وأثمر الرجل: كثر ماله(1).
ب- الاستثمار في الفقه الإسلامي: قد يتعذر الوقوف على تحديد صريح لمفهوم الاستثمار من المنظور الفقهي, نظراً لعزوف الفقهاء السابقين عن استخدام مصطلح الاستثمار، واستبداله بلفظ الاستنماء حيناً، ولفظ التنمية حيناً آخر، ولفظ النماء تارة(2).
فقد ذكر الكاساني، في كتابه بدائع الصنائع، عند تعريفه لعقد المضاربة "أن المقصود من عقد المضاربة هو استنماء المال ..."(3).
كما ذكر الفقيه المالكي الامام الدردير، في كتابه الشرح الصغير, لفظ التنمية للدلالة على معنى الاستثمار, في باب القراض, حيث قال: "القراض جائز, لأن الضرورة دعت إليه، لحاجة الناس إلى التصرف في أموالهم, وليس كل أحد يقدر على التنمية بنفسه(4).
بينما استخدم الشافعية لفظ نماء للدلالة على معنى الاستثمار, وهذا نص ما قاله النووي: "الأثمان في المقارضة لا يتوصل إلى نمائها المقصود إلا بالعمل, فجاز المعاملة عليها ببعض النماء الخارج منها"(1).
بينما قال الشيراهزي: "التجارة يطلب بها نماء المال" (2).
ج- مفهوم الاستثمار الأجنبي المباشر من المنظور الاقتصادي المعاصر: ذهب بعض الكتاب إلى تعريف الاستثمار الأجنبي المباشر بأنه "تكوين منشأة أعمال جديدة, أو توسيع منشأة قائمة، وذلك عن طريق مقيمي دولة معينة ضمن حدود دولة أخرى"(3). "أو بأنه نشاط استثماري طويل الأجل يقوم به مستثمر غير مقيم في بلد مضيف، بقصد المشاركة الفعلية أو الاستقلال بالإدارة والقرار"(4).
وانتهى كتاب آخرون إلى تعريفه بأنه "الحصة الثابتة للمستثمر المقيم في اقتصاد ما في مشروع مقام في اقتصاد آخر"(5).
وبشكل عام فان تلك التعاريف كلها تفيد أن الاستثمار الأجنبي المباشر هو: المال الوافد إلى دولة غير دولته، بقصد الحصول على الربح.
ثانياً: أهم أشكال الاستثمار الأجنبي المباشر:
يأخذ الاستثمار الأجنبي المباشر عدة أشكال لعل من أهمها(1):
1- مشروعات ملكيتها مشتركة (الاستثمار المشترك):
وتعتبر هذه المشروعات مشتركة بين المستثمر الأجنبي والمستثمر المحلي, وبنسب متفاوتة, تتحدد وفقا لاتفاق الشركاء، وحسب القوانين المنظمة لتملك الأجانب, حيث تنص قوانين كثير من الدول التي يقام فيها المشروع المشترك على أن لا تتجاوز نسبة المستثمر الأجنبي عن 49% من رأس مال المشروع, وذلك تفادياً للهيمنة الأجنبية على جانب مهم من مشروعات الاقتصاد المحلي. إذ أن الدول التي تستضيف الاستثمارات الأجنبية تحرص على أن تكون القرارات التي يتم اتخاذها في إطار الاستثمار الأجنبي تأخذ في اعتبارها المصالح الحيوية والهامة لاقتصادها المضيف, وعادة يكون تحقيق هذا الهدف من خلال الاستثمار المشترك متاحاً أكثر مما لو كان المشروع مملوكاً بالكامل للمستثمر الأجنبي, وما قد يثيره ذلك من شك وريبة ضد السيطرة الاقتصادية للمستثمر الأجنبي(2).
2 - مشروعات تملكها الشركات الأجنبية بالكامل في الاقتصاد المضيف: وهذا الشكل من الاستثمارات يتيح للعنصر الأجنبي السيطرة الكاملة في اتخاذ القرار, ولهذا لا تحبذه الكثير من الدول المستثمر فيها, خشية أن يؤدي إلى التبعية والهيمنة الاقتصادية من قبل المستثمر الأجنبي.
3- الشركات المتعددة الجنسية:
وهي الشركات التي تملك مشاريع كثيرة، في دول مختلفة من العالم، حيث تتميز هذه الشركات بضخامة أعمالها وأنشطتها، "ويمكن القول بأن الاستثمار الأجنبي المباشر والشركات متعددة الجنسية شيئان متلازمان، اعتاد الاقتصاديون على الجمع بينهما بطريقة مترادفة"(1).
وتعد ظاهرة الاستثمار الأجنبي المباشر عن طريق الشركات المتعددة الجنسية، أو ما يسمى بعابرة القوميات، من أبرز الظواهر التي طرأت على صعيد العلاقات الاقتصادية الدولية، خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة(2).
ورغم ما يثار حول الاستثمارات الأجنبية المباشرة من جدل واسع، وغالباً ما كان ينظر إليها في الماضي بنظرة يشوبها الحذر والسلبية، لاسيما من أصحاب الفكر الماركسي، فقد أصبحت مؤخراً مصدراً من مصادر التدفقات المالية المعاصرة، الذي لا غنى عنه للتنمية الاقتصادية في الدول النامية. فلقد ارتفعت نسبة هذا الاستثمار خلال الفترة 1981 – 1997م لمجموع التدفقات المالية للدول النامية من 13% إلى 38%(3). وقد أخذت الدول النامية، بما فيها الدول الإسلامية، تتسابق في جذب المزيد من هذا النوع من التدفقات – بعد إدراكها لإيجابياته – وذلك عن طريق منحه مختلف الإمتيازات والإعفاءات، كما تكشف ذلك قوانين تشجيع الاستثمار الأجنبي، التي صدرت في العديد من هذه الدول في السنوات الأخيرة، كإعفاء واردات المشاريع الاستثمارية من الرسوم الجمركية، والإعفاء من الضرائب على الدخل لفترة محدودة، والتأكيد على عدم التأميم والمصادرة والحجز، وحماية منتجات المشروع من المنافسة الخارجية الضارة(1). فضلاً عن تسارع هذه الدول إلى الدخول في اتفاقيات دولية، ثنائية وجماعية، لتشجيع تدفق هذه الاستثمارات داخل أراضيها، باعتبارها هي الضمانات الحقيقية التي تشجع تدفق رأس المال الأجنبي إليها، دون تخوفه من تغيير الاتفاقيات والضمانات المنصوص عليها في القوانين الداخلية للدولة المضيفة، التي هي في الواقع عرضة للتعديل والتغيير، أو حتى الإلغاء بإرادة الدولة المنفردة، مما يجعلها غير كافية على تبديد مخاوف المستثمر الأجنبي، من احتمال تعرض استثماره في الدولة المضيفة للمخاطر(2).
مع أن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في الدول الإسلامية هي الضمان الأساسي لجذب الاستثمار الأجنبي، وتبديد المخاوف التي تعتريه في اقتصاديات هذه الدول، حيث تؤكد الشريعة الإسلامية على حرمة الملكية الخاصة للإنسان، وعدم نزعها منه إلا إذا تعارضت مع المصلحة العامة، لأنه من المقرر شرعاً: أن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، كما يتحمل الضرر الخاص لأجل دفع الضرر العام مع تعويض صاحب الملكية الخاصة عما أنتزع منه تعويضاً عادلاً، لقوله تعالى: "... ولا تبخسوا الناس أشياءهم"(3). وعلى منع الظلم والاعتداء من قبل المسلمين على غيرهم "ألا من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته أو انتقصه أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة"(4). وعلى وجوب الوفاء بالعقود والالتزامات والاتفاقيات(5).
كما في قوله تعالى: "يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود(1).
وقال تعالى: "أوفوا بعهد الله إذا عاهدتهم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها..."(2).
وقد عدت السنة النبوية المطهرة عدم الوفاء بالعهد من علامات النفاق المذموم، ففي الحديث الشريف أن من علامات المنافق "إذا عاهد غدر".
بل وقد وصل إهتمام الإسلام بالوفاء بالعهود والعقود المبرمة مع الدول غير الإسلامية إلى درجة أنه لا يجوز للدولة المسلمة التحلل من التزاماتها ونقض عهدها والاتفاقيات المبرمة مع الدولة الأجنبية، فيما لو دخلت الأخيرة في حالة خلاف مع دولة إسلامية أخرى، قال تعالى: "وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق"(3).
وتاريخ الإسلام المجيد يؤكد حرص دولته في عصورها الأولى على احترام الاتفاقيات المبرمة مع غيرها، كما يتضح ذلك بجلاء من قول الخليفة علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه، لواليه على حكم مصر "وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدةً، أو ألبسته منك ذمَّةً، فَحُط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة. واجعل نفسك جُنَّةً دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشَدُّ عليه اجتماعاً مع تفرُّق أهوائهم وتشتت آرائِهم من تعظيم الوفاء بالعهود ... فلا تغدرن بذمتك, ولا تخيسن بعهدك ولا تختلن عدوك... ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب إنفساخه بغير الحق, فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدرٍ تخاف تبعته(4).
الأمر الذي يعكس أن ما احتوته الشريعة الإسلامية الغراء من أحكام ومبادئ وقيم، قادر علي خلق بيئة إسلامية، مواتية لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، الذي تبدو أهميته في الوقت الراهن للأسباب التالية:
أ- شح الموارد المالية لدى العديد من الدول الإسلامية، وقصورها عن القيام بعملية التنمية منفردة في اقتصاديات تلك الدول.
ب- لا يمثل عبئاً ثقيلاً أو جامداً على الاقتصاد المضيف, مقارنة بالقروض الخارجية, خاصة بعد تصاعد أزمة المديونية في مطلع الثمانينات, التي أصبحت عبئاً ثقيلاً على الاقتصاديات المدينة. نتيجة لما يدفع من فوائد وما يستهلك في تسديد القروض الماضية – بغض النظر عما إذا كان المشروع الاستثماري قد حقق ربحاً من عدمه – حيث بلغ علي سبيل المثال مجموع خدمة الدين كنسبة مئوية من صادرات السلع والخدمات في بعض الدول الإسلامية نحو 33% كما في إندونيسيا, و23% في أوغندا والسنغال, و42% في الجزائر, و27% في موريتانيا, وذلك في عام 1998م(1). الوضع الذي بسببه تضاءل أثر القروض الخارجية في التنمية الاقتصادية, في حين أنه في مجال الاستثمارات الأجنبية المباشرة فإن الاقتصاد المضيف لا يحتمل أية تكلفة إلا إذا حقق الاستثمار ربحاً.
ج- تراجع "دور الدولة في العديد من دول العالم, والاتجاه نحو اقتصاديات السوق الحر، التي تعتمد علي جذب الاستثمار الخاص كأحد الآليات الأساسية لتحقيق الإصلاح والنمو الاقتصادي"(2).
إلا أنه رغم ما تقدمه الدول النامية من امتيازات كبيرة، في سبيل جذب الاستثمارات الأجنبية، فقد جاءت النتيجة مخيبة للآمال لكثير منها, حيث أن الصفة الغالبة لتوزيعها يأتي غالباً في تركيزه في أقطار قليلة, فمثلاً استأثرت الصين وهونج كونج ودول أمريكا اللاتينية والكاريبي نحو 153 مليار دولار, أي ما نسبته 73% من إجمالي حصة الدول النامية، البالغة نحو 208 مليار دولار، التي تمثل ما نسبته 24% من إجمالي الاستثمار العالمي لعام 1999م. مقارنة بنصيب الدول المتقدمة الذي يقدر بنحو 637 مليار دولار، والذي يمثل ما نسبته 74% من إجمالي الاستثمار العالمي، البالغ 866 مليار دولار في العام نفسه.
وبالنظر إلى نصيب الدول الإسلامية، فيبدو أنه أسوأ حالاً من بقية الدول النامية الأخرى, حيث بلغ حجم نصيب الدول الإسلامية المنتمية إلى جامعة الدول العربية خلال عام 1999م نحو 8.7 مليار دولار، أي ما نسبته 1% من إجمالي الاستثمار العالمي(1). وهي بلا شك نسبة ضئيلة جداً, لا سيما إذا ما قورنت بنصيب الدول الأخرى, بل إن ذلك النصيب رغم ضآلته، قد تركَّز في عدد محدود منها, حيث استحوذت السعودية على نصيب الأسد, إذ بلغ نصيبها 4.8 مليار دولار، من أصل 8.7 مليار دولار وجهت إلى الدول العربية, كما استحوذت مصر على 1.5 مليار دولار، والمغرب على 847 مليون دولار(2). الأمر الذي يعكس محدودية تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر لدى العديد من الدول الإسلامية، إن لم يكن معدوماً أصلاً في بعضها، ويؤكد مدى إخفاق سياسة اللجوء إلى الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تحقيق أغراضها في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية لدى العديد منها.
ثالثاً: آثار الاستثمار الأجنبي المباشر على اقتصاد الدول المضيفة:
لا يخفى أن هناك نقاش طويل بين الاقتصاديين حول أهمية الاستثمار الأجنبي المباشر في الاقتصاد المضيف, حيث يؤيد فريق استقدام رأس المال الأجنبي، نظراً لحاجة الدول النامية إليه، الذي طالما شكل نقصانه عقبة رئيسة أمام تطورها ونموها, وفريق آخر يحذر من تشجيعه، ويرى أنه ما هو إلا نوع من الاستعمار الجديد، الذي يهدف إلى استغلال ونهب الفائض الاقتصادي للعالم النامي.
الأمر الذي يفرض علينا قبل بيان موقف الشريعة الإسلامية من هذه الاستثمارات، أن نقف جلياً على أهم الآثار المحتملة لها على الاقتصاد المضيف، بشيء من التفصيل، وذلك على النحو التالي:
1- الآثار السلبية المحتملة للاستثمارات الأجنبية المباشرة.
2- الآثار الإيجابية المحتملة للاستثمارات الأجنبية المباشرة.
أ- الآثار السلبية المحتملة للاستثمارات الأجنبية المباشرة:
الواقع أن الاعتماد على الاستثمار الأجنبي المباشر الذي تقوم به في الغالب الشركات متعددة الجنسية, ليس في حد ذاته خيراً محضاً، بل ترد عليه عدة انتقادات منها(1):
(1) صعوبة توافق استراتيجية المستثمر الأجنبي مع استراتيجية التنمية في الدول النامية, من حيث أولويات الاستثمار, حيث قد تتجه الاستثمارات الأجنبية في الدول النامية نحو القطاعات الهامشية، التي تدر ربحاً وفيراً وسريعاً، ولا تخدم عملية التنمية على الوجه المطلوب, مثل النشاطات السياحية، والتجارية، والمصرفية، وما إليها, وقد تتجه نحو إنتاج نوع معين من المنتجات الأولية, يوجه للتصدير إلى البلد الذي إنساب منه رأس المال، مما يؤدي إلى أن يصبح الاقتصاد المحلي مجرد مراكز أمامية لاقتصاد أجنبي, أو اقتصاداً ثنائياً. وحين تهتم بالصناعة فإنها تنتج سلعا لا تستجيب لاحتياجات الجماهير الشعبية، ولا تكون في متناول دخولها, وإنما تستهلكها طبقة الصفوة، أو النخبة في هذه الدول، الأمر الذي لم يقتصر أثره على استمرار ظاهرة الازدواج في الاقتصاد الوطني, وإنما يمتد إلى خلق أنماط استهلاكية جديدة في المجتمع، تعززها الإعلانات التجارية، التي تقوم بدور فعال في تسويق منتجات الاستثمار الأجنبي المباشر(2).
(2) يؤدي اختلال توازن علاقات القوى بين أي شركة دولية عملاقة ودولة نامية إلى مساومة غير متكافئة بينهم, حيث أن المستثمر الأجنبي يمتلك من القوى الاحتكارية والقدرات المالية والتكنولوجية ما يفوق قوة معظم الدول النامية, مما ينتج عنه غبن وإجحاف في حقوق ومكاسب الطرف الأخير, حيث قد يفرض المستثمر الأجنبي ثمناً باهظاً نظير ما يقدم من معرفة تقنية، حقيقية كانت أو وهمية, وقد يلجأ إلى التلاعب بالأسعار، وذلك عن طريق رفع أسعار السلع والخدمات المستوردة من أحد فروع الشركة الأم في الخارج، وتخفيض أسعار السلع المصدرة إليها بأقل من قيمتها السائدة في السوق، كوسيلة مستترة لتضخيم الأرباح المتحققة لصالح الشركة الأم، وإخفائها عن الشركاء المحليين، أو تحاشي جهاز الضرائب في الدولة المضيفة، وتبديد الدخول الضريبية، التي من المفترض أن يحصل عليها الاقتصاد المضيف(1).
(3) تؤدي مركزية اتخاذ القرارات للشركات المتعددة الجنسية في دولة المقر إلى الميل في استيراد المواد والسلع والكفاءات البشرية وغيرها من عوامل الإنتاج من مشاريع الشركة الأجنبية في الخارج، بالرغم من وجودها في السوق المحلية المضيفة لهذه الشركات, الأمر الذي يترتب عليه إهمال مصادر العرض المحلية لهذه السلع والعوامل, والإخفاق في تنمية المهارات الإدارية المحلية.
(4) قد تؤثر الاستثمارات الأجنبية المباشرة سلباً على موازين مدفوعات الدول النامية, نتيجة تحويل أرباحها كلها أو معظمها إلى الخارج, وكما تشير بعض الدراسات "أنه خلال الفترة 1978 - 1990 تدفق إلى الدول النامية استثمارات تقدر بحوالي 6 مليارات دولار، أسفرت عن أرباح وفوائد ورسوم تدفقت إلى الدول المتقدمة قدرها 13 مليار دولار"(2) مما يعني تدهور الحساب الجاري والرأسمالي لميزان المدفوعات، خصوصاً في حالة مغالاة المستثمر الأجنبي في تكلفة واردات المشروع من السلع الرأسمالية، التي غالباً ما يكون مصدرها الشركة أو الدولة الأم.
(5) يمكن أن تؤدي الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى منافسة الصناعات المحلية, وهي في مركز تنافسي ضعيف، مما قد ينتج عنه كساد، أو انهيار الصناعات الوطنية الناشئة، أو الصغيرة الحجم.
(6) يمكن أن تساهم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تفاقم تلوث البيئة، من خلال توطنها في بعض الأنشطة والصناعات الملوثة للبيئة, "مثل الصناعات الاستخراجية النفطية, والتعدينية والغاز الطبيعي والصناعات البتروكيماوية وصناعة الإسمنت والأسمدة, بدلاً من توطنها في دولها, حيث تخضع هذه الاستثمارات الأجنبية في دولها لمعايير بيئية مشددة, بسبب تزايد الاهتمام الرسمي والشعبي بهذا الأمر, في حين لا يوجد أدنى اهتمام بذلك في معظم الدول النامية "(1).
(7) وأخيراً تتهم الشركات متعددة الجنسية بممارسة الأساليب غير المشروعة، أو الملتوية لإفساد الحياة السياسية داخل الدولة المضيفة, وذلك عن طريق تقديم الرشاوي، لشراء ذمم الساسة, ومتخذي القرار, وحملهم على قبول شروط أكثر غبناً, أو إغماض العين على مخالفات قانونية, أو دفع أثمان أعلى, أو شراء سلع أقل جودة(2).
ب – الآثار الإيجابية المحتملة للاستثمارات الأجنبية المباشرة:
ليس من الحكمة رفض الاستثمارات الأجنبية المباشرة, وتصويرها على أنها شر مستطير, يهدد الاستقلال الاقتصادي للدول الإسلامية, حيث أن لهذه الاستثمارات مزايا محتملة, إذا ما أحسن توجيهها ومراقبتها, نذكرها بشي من التفصيل:-
1. لعل أبرزها أن تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر لا يشكل عبئاً جامداً على الاقتصاد المضيف، كالمدفوعات التي تدفعها الدولة على القروض الخارجية، ولهذا فهي تعتبر بديل ناجح للقروض الخارجية الربوية، التي هي من منظور إسلامي خسارة محققة الوقوع، لأن من يتعامل معها موعود بحرب من الله ورسوله، كما في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون"(1) ومن ثم فليس هناك خسارة أعظم من هذه الخسارة.
2. تساهم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في سد أربع فجوات رئيسة في اقتصاد الدول النامية(2):
أ- فجوة المدخرات المحلية اللازمة لتمويل البرامج الاستثمارية الطموحة.
ب- فجوة النقد الأجنبي اللازم لاستيراد الآلات والمعدات والخبرات الفنية التي تحتاجها عملية التنمية.
ج- الفجوة التكنولوجية لسد حاجة الدول النامية من الآلات، والمعدات، والخبرات والمعارف الفنية، والتنظيمية، والتسويقية، الأمر الذي يساعد في تحول الاقتصاد النامي إلى الإنتاج الصناعي، وفي الدول الإسلامية تجارب مهمة، فإلى جانب البترول هناك الصناعات البتروكيماوية، القائمة في عدد منها على أساس المشاركة مع شركات أجنبية(1). فضلا عن استفادة العديد من هذه الدول من الاستثمار الأجنبي في تطوير البنية الأساسية، كالطرق، ومحطات توليد الكهرباء، ومشاريع الري والمياه، والموانئ، والمطارات، وغيرها من المنافع، التي ما كان لها أن تتحقق في غياب الاستثمار الأجنبي المباشر.
د- الفجوة بين الإيرادات العامة والنفقات العامة، حيث تؤدي الاستثمارات الأجنبية إلى حصول الدولة المضيفة علي إيرادات جديدة، في صورة ضرائب جمركية، وضرائب على الأرباح، تزيد من إمكاناتها على الإنفاق، ومن ثم في سد فجوة الإيرادات التي تعاني منها(2).
3. يساهم الاستثمار الأجنبي في الاستغلال الأمثل لموارد الدولة المضيفة، وهذ1 لا يتحقق لمصادر التمويل الأجنبي الأخرى مثل المنح والقروض(3).
4. يساهم الاستثمار الأجنبي المباشر في تحسين ميزان المدفوعات، عن طريق توفير رؤوس الأموال, والتكنولوجيا، إلى البلد المضيف، وهما العنصران الضروريان للتنمية الاقتصادية في الدول النامية(1). فضلا عن أن الاستثمار الأجنبي المباشر، كأداة هامة من أدوات التنمية الاقتصادية، يعتبر افضل بكثير من القروض الخارجية, لا سيما من حيث آثاره على ميزان المدفوعات، حيث يدر عائداً، بدلاً من زيادة أعباء خدمة الدين, التي تمثل في الوقت الراهن عبئاً ثقيلاً علي ميزان المدفوعات، وقيداً شديداً على التنمية الاقتصادية في الدول المدينة، حتى أصبح ينظر إليها حالياً على أنها عاملاً ماحقاً لقدرات الدول النامية، بل هو سبب فقرها(2). ناهيك عن أن تلك الاستثمارات لا تؤدي إلى الخضوع لشروط المانح المجحفة، كما حدث عند التعامل مع تفاقم أزمة الديون الخارجية، في مطلع الثمانينات(3).
5. يساهم الاستثمار الأجنبي المباشر في خلق مجموعة من الوفورات الخارجية، وطائفة من المنافع الاجتماعية، لاقتصاد الدولة المضيفة، ومن أمثلة ذلك(4):
أ- يؤدي الاستثمار الأجنبي المباشر إلى زيادة رأس المال الاجتماعي، من خلال ما يقوم به المستثمر الأجنبي من إصلاح الطرق المؤدية إلى المشروع الاستثماري، وتوصيل شبكات المياه والكهرباء .. الخ.
ب- يترتب علي الاستثمار الأجنبي انخفاض تكاليف الإنتاج المحلي، نتيجة قيامه بإنتاج بعض ما تحتاجه المشروعات المحلية من مستلزمات الإنتاج.
ج- يؤدي المستثمر الأجنبي بما لديه من خبرات إعلانية، وتسويقية، واتصالات مسبقة بالأسواق العالمية إلى فتح أسواق جديدة أمام صادرات الدولة المضيفة، والتمتع بمزايا اقتصاديات الحجم الكبير، وعلى سبيل المثال فإن أكثر من 40% من صادرات ماليزيا للولايات المتحدة الأمريكية تم عن طريق فروع شركات استثمارية أمريكية تستثمر في ماليزيا، كما استطاعت شركة "سابك" في المملكة العربية السعودية بدعم من الشريك الأجنبي أن تسـوق منتجاتهـا في أكثر من80 بلداً حول العالم(1). الأمر الذي يؤدي إلى زيادة حصيلة الصادرات، والتي يترتب عليها تقليل العجز في الميزان التجاري، خاصة إذا لم يصاحب هذه الاستثمارات زيادة في الواردات.
د- يساهم الاستثمار الأجنبي المباشر في إيجاد مجموعة من علاقات الترابط الأمامي والخلفي في القطاع الذي يعمل فيه, الأمر الذي يترتب عليه زيادة القيمة المضافة، ورفع معدلات التشغيل في الاقتصاد المضيف(2).
هـ- يؤدي الاستثمار المباشر إلى خلق فرص عمل كثيرة، مما يسهم جذرياً في حل مشكلة البطالة، وعلى سبيل المثال فقد ارتفع عدد العاملين في سابك والشركات التابعة لها من 7700 عامل في عام 1987م إلى نحو 13 ألف عامل عام 1996م، تمثل القوى العاملة المحلية نسبة 67%(3).
ومن ناحية أخرى قد يؤدي نشاط المشروعات الأجنبية إلى خلق دخول جديدة لبعض الفئات الأخرى، مقابل استخدام خدمات معينة, مثل استئجار أراضي، أو مباني، أو غيرها من الخدمات التي تؤدي بشكل مباشر أو غير مباشر إلى مزيد من التنمية( ).
إلا أنه رغم المزايا السالف ذكرها للاستثمار الأجنبي المباشر في الاقتصاد المضيف، فيجب ألاَّ نخدع أنفسنا، بأن نتصور أنه يحمل معه العصا السحرية لحل المشاكل التي تجابه تنمية اقتصاديات الدول الإسلامية، لأن مسئولية هذه التنمية تقع على عاتق المسلمين وحدهم، من خلال إمكاناتهم الذاتية، ومواردهم المحلية، أما الاستعانة بالاستثمار الأجنبي المباشر فيجب أن يظل إضافة هامشية أو وسيلة مكملة للاستثمار المحلي.